التعرّضية وقابليتنا للتأثر
- Manar Alk
- Apr 26, 2024
- 6 min read

في محاولة شخصية لفهم مفهوم وفكرة الـ Vulnerable وتحديد إطار نظري ظهرت هذه التدوينة، فالرغبة في تقريب فكرة مثل هذه أو حتى وضعها في إطار للشرح يحتاج محاولات جادة لترجمتها لتُفسر كما تستحق. كلمة زَلِقة تتسرب من بين الأصابع واستقريت على مفهوم (قابلية التأثر) لتفسيرها، وفي بعض النصوص أعبر عنها ب (التعرضية) كما ترجمها الدكتور ياسر الدباغ، و أفضل ترك الفكرة لاجتهادات المترجمين..
اُختزل المفهوم غالباً عند ترجمته في "الضعف" كمنظور سلبي له، وعند العودة للمعجم الإنجليزي نجد أنها كلمة ذات اشتقاق لاتيني لكلمة Vulns والتي تعني (الجروح)
ترى جوديث بتلر أن التعرضية أو قابلية التأثر هي حالة إنسانية وجودية، لا نستطيع الانفكاك منها، فنحن نتقاسمها مع بعضنا وتخلق إمكانية التضامن والترابط العلائقي بيننا، فالمعاناة هي قدرة متأصلة في التجربة البشرية فهي تعطينا مساحة وقدرة على الانفتاح للتأثر والتعرض للجروح والمعاناة في إطار من المشاركة.
التعرضية أو القابلية للتأثر بمعناها الخاص والعام:
لتعريف مفهوم الـ vunerability، قسمنا المفهوم لقسمين بمعنى أوسع بين (البيئة الطبيعية والسياسية) بالإضافة لإعادته لمعنى محدد وضيق في نطاق تجاربنا الشخصية العلائقية (الاجتماعية) وفي هذه التدوينة أتناول معناه الضيق أي التعرضية في نطاق علاقاتنا الاجتماعية.
يجتاز مفهوم التعرضية لتخصصات كثيرة ليشمل أخلاقيات علم الأحياء والقانون وعلم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس وغيره في كل مجال ليستدعي كل فكرة بأهدافها ودوافعها الخاصة.
من الممكن تصنيف التعرضية أو قابلية التأثر لثلاث تصنيفات رئيسية:
1- الضعف الأنطولوجي المتأصل في الحالة البشرية:
وتنشأ هذه الحالة لطبيعتنا البشرية العاطفية والاجتماعية، فنحن جميعاً عُرضة للجوع والعطش والعداء العاطفي والعزلة الاجتماعية. تصف جوديث أن مفهوم التعرضية هي فكرة مبنية على العلائقية في أصلها، فنحن عرضة للآخرين داخل علاقاتنا، فلا أحد منا بطل لا يُقهر، فنحن معرضون للتأثر في مختلف مراحل حياتنا بدءًا من طفولتنا ولاحقاً بطرق مختلف قد تختلف بتغيّر حاجاتنا واعتمادنا على الآخرين باختلاف العوامل كالعمر والجنس وحالتنا الصحية وهو ما تعتمد عليه قابليتنا للتأثر ونسبة المرونة والتأقلم.
2- التعرضية أو قابلية التأثر الظرفية، البيئية:
محددة بسياق، وتداخل مع الأوضاع الشخصية والاجتماعية السياسية والاقتصادية والبيئية، وقد تكون التعرضية الظرفية قصيرة المدى ومتقطعة المدة أو دائمة، فعلى سبيل المثال؛ الكوارث الطبيعية والحروب والفيضانات والزلازل تساهم في ضعفنا على نطاق واسع هنا، فنحن كأفراد لا يمكننا حماية أنفسنا من الأذى في ظروف بيئية واسعة النطاق -إلا بحدود ضيقة-
ترتبط التعرضية الظرفية بالتزامات أخلاقية وسياسية محددة، نظراً لعدم قدرتنا كأفراد عن صد الأذى البيئي فهو مسؤولية منوطة بالحكومات وتقديم المساعدات الطارئة والحد من المخاطر والأضرار الوقائية.
في هذه الحالة يتحول مفهوم التعرضية لمفهوم أخلاقي ويتخطى حصره في مفاهيم شخصية واجتماعية، إذ ترتبط الأخلاقيات هنا بالأفراد والمسؤوليات تحت رعاية مؤسسات دولية أو حكومية
3- تتفرع تحت التعرضية الظرفية وقابلية التأثر المسببة للأمراض (العجز) وهو ما يعد مفهوماً مقلقاً أخلاقياً، حيث يكون العجز هنا مصدراً للأذى والانتهاك من خلال علاقات شخصية واجتماعية مسيئة، قمع اجتماعي وظلم…
على سبيل المثال، قد يكون كبار السن والأشخاص من ذوي الإعاقة العقلية أو الجسدية عُرضة لعدة أشكال من الاعتداءات الجسدية والجنسية من قبل مقدمي الرعاية.
وتتداخل هذه القوانين مع حقوق الإنسان، فيذكر فيرنر بأن حقوق الإنسان تتطور استجابة للعلاقة الديناميكية بين عدم الاستقرار المؤسسي والضعف الأنطولوجي (العجز)
في هذه الحالة تصبح المؤسسات من مصادر قابلية الألم والمرض! فالعجز عن رفع الضرر والكارثة يزيد من سوئها واستمرار الأذى، فعند عجز هذه المؤسسات عن فرض عقوبات أو إصدار أي تدخل، وهو ما يساهم في تكرار الكوارث. تختلف هذه التعرضية الظرفية بأن يكون مصدر الأذى فردياً وتعد مسؤولية صد هذا الأذى مؤسساتيًا وذلك نظراً لأن الأذى الواقع على أطراف لهم قابلية تأثر أعلى.
في هذه التدوينة سيتم التركيز على مفهوم التأثر العلائقي (الاجتماعي)
يتمحور مفهوم التعرضية والقابلية للألم (الشخصي\ الاجتماعي) على علاقتنا الاجتماعية باعتبارنا كائنات اجتماعية وعاطفية، لذا فنحن معرضون عاطفياً ونفسياً للآخرين مرات لا تعد ولا تُحصى، معرضون للخسارة والحزن، كما نتعرض للإهمال وسوء المعاملة ونقص الرعاية، كما الرفض والنبذ والإهانة.
"لا ينبغي اعتبار التعرضية حالة ذاتية، بل كسِمة علائقية، فنحن لا نكون عُرضة للأذى لكننا دائماً عُرضة لموقف ما أو شخص أو هيكل اجتماعي، شيء نعتمد عليه ونتعرض له" بتلر، 2021
"تُعرف الذات من خلال الاصطدام مع الآخر" يُفهم هنا الاصطدام من خلال الانكشاف؛ والعلاقة بين الذات والآخر، وهي علاقة أساسية لتشكيل مفاهيمنا تجاه العالم وتجاه ذواتنا، خاصةً العلاقات الاولية المبكرة وعلى الرعاية المُتلقاة (الاهتمام، الانتباه، المسؤولية، تقديم وتلقي الرعاية. لذا نجدنا منصهرين مع هذا المفهوم ومحاولات الانفكاك منه من خلال تقليل تجاربنا وعلاقتنا هي محاولات مشوهة لعيش حياة ناقصة.
إذا كانت القابلية للتأثر هي مفهوم علائقي بشكل أساسي، فنحن أمام سؤال مهم
كيف يمكن لحالة من قابلية التأثر أو التعرضية أن تعزز من تجاربنا وترابطنا؟
هنا قسمت جوديث بتلر القابلية للألم مع الآخر إلى:
1- استجابتنا للآخرين
2- الانكشاف والانفتاح للآخرين
(نحن نحب رؤية الانفتاح في الآخرين ولكن نخشى السماح لهم برؤيته فينا)
استجابتنا لحاجات الآخرين وقابليتهم للألم ومد الرعاية والمحبة وفهم هذه الخصيصة الإنسانية في علاقتنا، كذلك مدى انكشافنا وانفتاحنا على الآخرين بدرجات متفاوتة. لكل علاقة ظروفها ومقارباتها، إذ يتحدد مدى الانكشاف على الآخر بعلاقتنا الحميمية والقريبة بعلاقات صحية وأكثر متانةً وثبات، فكلما زاد الانكشاف زادت قابليتنا للتأثر ومن هنا يصبح المفهوم مقلقاً ومربكاً لنا إذا تضعنا في مواجهة مع أكثر مخاوفنا ونقاط ضعفنا بتوقع الرفض أو الصد، لذلك كانت بعض التجارب بحاجة للجسارة، ولا ينبغي علينا أن نأسف أو نلغي هذه القابلية للتأثر أو نبني جسور عالية واستقلالية سلبية منعاً لأي أذى قادم من الآخر فنحن بحاجة للاعتراف بها وفهمها لأن جزء كبير من تجاربنا القيّمة والتغيرات و النقلات الكبيرة على الصعيد المعرفي و الشخصي والفكري خارج دوائرنا الآمنة و جسورنا الممتدة، حيث تأتي من الميدان مثل ما تصفه برنيه براون، إذ يحوي الميدان كل المشاعر والمخاوف التي لا نريد مناقشتها ولاحتى احتمالية عيشها، كالخوف، والعار، والحزن، وخيبة الأمل. فالميدان أيضاً مهد للخبرات والعواطف التي نتوق لها، فهو الطريق للاستجابة والجسارة والتعاطف والأصالة والإبداع والحب. فالقضية الحاسمة هنا، لا تتعلق بمستوى ضعفنا الفعلي ولكن بالمستوى القادرين على الاعتراف به لنقاط ضعفنا.
"الاعتماد هو أحد أشكال القابلية للتأثر" سوزان دودز
إن فكرة الخوف من الاعتماد على الآخر مُتجذرة من خبراتنا العلائقية الأولى.
فعلى سبيل المثال الخوف من الرفض والأذى أصبح مؤثراً على الانفتاح وقابلية التأثر، فهو مفهوم مثير للقلق لمن يمتلك خبرات مؤذية أدت إلى الخوف من الثقة بالآخرين والاعتماد عليهم. فالإنسان كائن اجتماعي يولد في بيئة من العلاقات المتبادلة و هو ماله أثر في قوة العلاقات وثباتها وتأثيرها القوي على البناء النفسي لكل طرف داخل العلاقة. فنحن لا نولد منفصلين ثم نضطر إلى تكوين علاقات وصِلات مع الآخرين، فهذه الاعتمادية حاجة ملحة وطبيعية.
تصف جوديث بتلر مفهوم (تعلقية \ علقية البشر) كالآتي: أننا ومنذ البداية مرتبطون بالآخر من المراحل العمرية الأولى حتى قبل التفرد وبناء استقلالا، فنحن معتمدون على الآخر بسبب احتياجاتنا الجسدية، العلقة تعني أننا دائماً مهيؤون للتأثر. فنظراً لارتباطنا بالآخر والتأثر بالقرب ومدى هذا القرب وهو ما يعين التأثير بكينونتنا من جهة والدعم المادي والطبيعي لحياتنا من جهة أخرى.
كل ذات إنسانية تتشكل وتكوّن بنيتها بوجود الآخرين..
من هنا يمكننا تتبع العلاقة الجوهرية بين الرعاية والقابلية للتأثر، فأخلاقيات الرعاية تُحوّل التركيز إلى المتطلبات الفريدة لمواقف محددة وإلى فضائل متعلقة بالمشاعر ما يُعد أساساً في العلاقات الشخصية الوثيقة مثل: التعاطف، والرحمة والحب، ولذلك يمكن تسمية هذا النهج الأخلاقي بالأخلاق العلائقية (عدم الإيذاء ورفع الضرر عن الآخر).
تُفهم التعرضية بطريقة سلبية اختزالية عندما تُناقش كمفهوم يتعارض مع معيار الاستقلالية الذاتية والاكتفاء الذاتي، قابلية التأثر لا تتعارض مع الاستقلالية بل تبدأ معها، مع جسارتنا للتخلي عن هذه الاستقلالية. واقتبس من برنيه براون الآتي "لا توجد شجاعة بلا تعرض"
إن مزيج الجسارة مع مشاعر الخوف والخسارة بالظهور والانكشاف بدلاً من البقاء على الهامش أو البقاء داخل دائرة الأمان قد يمنع مفاهيم الاستقلالية بالنضج، هنا نستشهد بفكرة أن البقاء تحت الشمس أجدى من العيش تحت الصناديق معتمة.. إن مفهوم القابلية للتأثر متناقض وغامض في تجربته وفي قيمته. فبعد كل محاولاتي لمقاربة المفهوم إلا أنه لن يفهم إلا من خلال التجربة، نحن بشر جُبلنا على هذه القابلية، وليست المناشدة هنا أن نلغيها أو ننفيها بل نحاول لفهمها وكيفية التعامل معها بأفضل وجه مع هذا الانكشاف الثابت والضروري للعيش.
إلا أني أنوه أن الأمر أصعب من مجرد القفز للتجارب بتعرض كامل لكل مخاوفنا، فخوفنا من الرفض والشعور بالخزي والعار من أدنى محاولة الانكشاف..
قد تكتمل هذه التدوينة في جزء آخر لمفاهيم ما بعد التعرضية، والمشاعر التي نتلقاها نتيجة التعرض (الخزي، والعار) لنتفرد في سردها.
المراجع:
-Vulnerability, Moral responsibility, and Moral Obligations: the case of Industrial Action in the Medical and Allied Professions-Henry Adobor1,2022
-The role of vulnerability in Kantian ethics-Paul Formosa
-Vulnerability New Essays in Ethics and Feminist Philosophy- Wendy Rogers,Susan Dodds
-Reflections on the Value of Vulnerability: Towards a Relational Understanding of Vulnerability with Ethics of Care-Aastha Mishra, 2019
-Feelings, stephen frosh
-What does Vulnerability mean? By Barry Hoffmaster2006 -Organizing vulnerability exploring Judith Butler's conceptualization of vulnerability to study organizations-Isabella Scheibmayr, 2023
Commenti